قصة

كتب معاذ مدهش:

كانت مدرستنا أشبه بمتحف قديم، كل شيء فيها يسير بهدوء ورتابة، حتى ظننا أن الحياة خارج جدرانها تتحرك بسرعة أبطأ مما نتصور. وبينما كنا نغالب النعاس في حصة الكيمياء ذات يوم، إذا بمعلمنا النحيل، الأستاذ مصطفى، يعلن عن مفاجأة كبرى: “اليوم سنقوم بتحضير عنصر كيميائي عملياً، لا على السبورة كما تعودتم”.

كانت هذه الجملة كالصاعقة علينا، لم نتخيل يومًا أن نرى معمل المدرسة يُفتح، حتى شككنا في وجود معمل من الأساس. تجمعنا حول الأستاذ مصطفى، الذي كان يرتدي “شميز” أبيض مدسوس بعشوائية داخل بنطاله الواسع بينما كانت رياح الشتاء تلعب بشعره الأبيض الرقيق، وكأنها تُذكّره بعدد السنوات التي قضاها في هذه المدرسة. خمسون طالباً تبعناه كقطيع ضائع نحو المجهول، وكأننا في رحلة لا نهاية لها.

وصلنا إلى المعمل الذي بدا وكأنه لم يُفتح منذ عقود. رائحة العفن والغبار استقبلتنا عند الباب. تقدم الأستاذ مصطفى، وبدأ بتحضير مكونات “العنصر” وهو يمسك بأنبوبة اختبار صغيرة. وقف أمامنا كموزع أوركسترا على خشبة المسرح، وبدأ يعرفنا إلى أسماء المركبات الكيميائية، تلك التي تنومنا مغناطيسًا على كراسي الفصل.

صب الأستاذ محتويات زجاجة بنية في الأنبوب، ثم أضاف سائلاً آخر مائل للأحمر من علبة قديمة ذات غطاء صدئ، ثم مزج المحاليل وهو يتحدث بلهفة، أشبه بعالم على وشك اكتشاف اختراع جديد. فجأة، ومن حيث لا ندري، بدأ الدخان يتصاعد، دخانٌ أزرق كثيف ملأ المعمل بثوان، من وسط الأزرق جاءنا صوت الأستاذ بفزع: “اخرجوا!”

قفزنا جميعًا من مقاعدنا، خمسون طالباً يحاولون الوصول إلى الباب في وقت واحد. كنا نتدافع كأننا هاربون من كارثة نـ،وـوية، بينما الدخان يزداد كثافة وقد اكتسب رائحة تشبه مزيجًا من البيض الفاسد والبارود. وصلنا إلى الباب قبل أن ينفجر شيء ما في المعمل، تبعته سحبٌ إضافية من الدخان. خرجنا واحدًا تلو الآخر، كأننا في سباق  مع الزمن، لم تمض دقائق كثيرة حتى خرج الأستاذ مصطفى من المعمل، لكنه كان شخصًا آخر تمامًا!!

ملامحه تغيرت، شعره الأبيض الذي كان يتمايل في الريح قبل دقائق، أصبح متفحماً بالكامل، نظارته هي الأخرى صارت ملتوية كأنها تعرضت للذوبان. أما وجهه فكان مغطى بطبقة كثيفة من السخام، كأنه للتو عاد من رحلة إلى كوكب الزومبي. تقدم نحونا بخطوات متثاقلة، ثم قال بصوت غضوب:
“كلكم راسبين”

من صفحة الكاتب على فيسبوك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى